ملامح من حياة وفكر “خافيير زوبيري” / م. بلال أشمل

خافيير زوبيري أبلاطيغي” Xavier Zubiri Apalategui أحد أكثر وأهم المفكرين المعاصرين في وقتنا الحاضر إلى جانب “خوسي لويس أبيان” Abellán José Luis (1933-)        و”أنخل مرية رويبال أمور”Amor Ruibal  (1869-1930) و “خوسي غاوس” Gaos, José (1900-1969) و “دورس” Eugeni d’Ors (1882-1954) و “أونامونو” Unamuno (1864-1936) وحلقة طويلة من المفكرين والفلاسفة، سواء في إسبانيا أو في أمريكا بعد الحرب الأهلية (1936-1939).

         تنتظم فلسفة “زوبيري”  في المسار الفكري الذي افتتحه “هوسرل”(1859- 1938 ) و”هايدجر”  Heidegger 1889-1976(، وتصب فيما يجاوز الوعي والوجود، إلى تمثل الحقيقة تمثلا فعليا؛ مما سمح له بوضع فكرة جديدة عن “الإدراك”، ومثلها عن “الحقيقة”، أقدرته على وضع أصول فلسفة جديدة. فمن منطلق التحليل لفكرة “العقل الحاس”، استطاع “زوبيري”، عمليا مساءلة كل القضايا المطروحة في الفلسفة الكلاسيكية؛ من المادة  إلى الحرية، ومن التطور إلى مشكلة الإرادة، ومن التاريخ إلى مشكلة الله. تركيب فلسفي كامل ما يزال يحتاج إلى فهم أكثر عمقا، إذ لو تم تطبيقه على مجالات جديدة في المعرفة، وتم اقتياده إلى مستويات أجد من الممارسة الفلسفية الجذرية، لاستطاع إمدادنا بمقومات حقيقية من الغنى النظري والإمكان التطبيقي، يمكننا من اكتشاف من يكون “زوبيري” على الحقيقة، بعدما ظل لمدة طويلة مفكرا على المجاز. فمن يكون هذا المفكر؟ وما هي المسارات المهمة لحياته الفكرية والاجتماعية؟

         ولد خافيير في “سان سيباستيان” San Sebastián  بإقليم  “دونوستيا”Donosti عام 1898، أي في أكثر الأعوام إحراجا للضمير التاريخي للأمة الإسبانية؛ من حيث كونه تاريخا لأهم هزيمة منيت بها إسبانيا أمام الولايات المتحدة الأمريكية، وترتب عنها نزيف مستمر في الوعي الإسباني عامة تمثل في الجيل المسمى بـ”جيل الثمانية والتسعين”. بعد أن درس في مدرسة “سانتا مارية” Santa María بالمدينة المذكورة طيلة عشر سنين (1905-1915)، شرع الشاب “زوبيري” في دراسة الفلسفة واللاهوت في  المدرسة الإكليركية بمدريد. هناك أقام كطالب خارجي في نزل متواضع بالمدينة القشتالية. وخلال تلك المدة تلقى التأثيرات الحاسمة في تكوينه كفيلسوف، ولا سيما لقاؤه بـ”خوسي أورتيغا إي غاسيت” José Ortega y Gasset  )1883-1955( مع بداية العام 1919. لقد ادخل “أورتيغا” الشاب “زوبيري” في قلب التيارات الفلسفية الأساسية للفكر الأوروبي؛ وخصوصا ظاهريات “هوسرل”، التي ستصبح لاحقا نقطة مرجعية في فهم التطور الفكري لـ”زوبيري”. لقد أشار صاحب “موضوع عصرنا” إلى أنه مع “هوسرل” بدأت “استعارة” metáfora ثالثة في تاريخ الفلسفة، أبعد من الاستعارة القديمة التي بمقتضاها كان الإنسان جزءا من الكون، وأبعد أيضا من الفكرة الحديثة عن الوعي كوعاء للعالم أجمع. لقد سعى “هوسرل” إلى تحقيق عودة إلى الأشياء ذاتها، لكي ينال، انطلاقا منها، عناصر فلسفة متحررة من الفرضيات الغير المبررة، ويمضي من ثم إلى تجاوز النظريات الميتافيزيقية القديمة والحديثة بصدد مشكلة المعرفة والوجود.

         إن التحليل الهوسيرياني للوعي يظهر الإحالة التأسيسية للقطب القصديnoético  للأشياء إلى قطبها الداخلي noemático  ومن الذات إلى الموضوع. إن هذه القصدية التي يتميز بها الوعي، هي التي تمنع صيرورتها إلى مادة sustantivación  ومن ثم جعلت بصيرتا “أورتيغا” والشاب “زوبيري”، تنفتحان على إمكانية وجود أفق جديد للتفلسف يتجاوز التقليد الفلسفي الغربي السابق عليه دون أن يقطع معه نهائيا. بين 1920 و1921، درس “زوبيري” الفلسفة في المعهد العالي للفلسفة بالجامعة الكاثوليكية بـ”لوفينا” Lovaina ذات التقليد الكاثوليكي العريق.

         وخلال شهر نوفمبر من العام 1920، سينتقل لفترة وجيزة إلى روما حيث سينال شهادة الدكتوراه في اللاهوت. في “لوفينا”، وفي حرمها الجامعي، سيلتقي “زوبيري” أساتذة كبارا مثل “ل. نويل”  L. Noel ممن كانوا يعنون باستثمار جميع الإمكانيات التي يوفرها فكر “هوسرل”.  لقد كانت فلسفة “هوسرل”، التي غيرت وجه الفلسفة الأوروبية يومئذ، هي موضوع الإجازة التي قدمها “زوبيري” في فبراير عام 1921 بعنوان “مشكلة الموضوعية حسب هوسرل: المنطق الخالص”. في الواحد والعشرين من ماي لنفس العام، سيقدم “زوبيري” للجامعة المركزية بمدريد أطروحته للدكتوراه في الفلسفة تحت إشراف “أورتيغا” وعنوانها “بحث في نظرية ظاهراتية للحكم”. هذه الأطروحة المنشورة بمجموعة من التعديلات عام 1923، ستشكل أول عمل حول “هوسرل” في غير اللغة الألمانية، وِضمنها سيأخذ “زوبيري” موقفا خاصا داخل الحركة الفينومينولوجية يمكن نعته بـالموقف “الموضوعي”. وخلال عام 1921،َسيرسم “زوبيري” كاهنا في “بنبلونة”  Pamplona ويبدأ تجربة جديدة قوامها الخدمة الكنسية في جو روحاني غامر.

         وفي عام 1926 سيحصل “زوبيري”  على كرسي “تاريخ الفلسفة” في كلية الفلسفة والآداب بالجامعة المركزية في مدريد. هناك تقاسمت نخبة من المفكرين، ممن فرقتهم الحرب الأهلية بعد ذلك، مدرجات الكلية أمثال “اورتيغا إي غاسيت” Ortega y Gasset و “ادولفو بونيا سان مرتين” Adolfo Bonilla San Martín (1875-1926  ) و”مانويل كوسيو” Manuel B. Cossío (1857-1935)         و”خوليان بيستيرو”  Julián Besteiro(1870-1944) و”مانويل غرسية مورنتي” Manuel García Morente (1888-1942).

         وفي عام 1929، سينتقل “زوبيري” إلى “فريبورج” بهدف استكمال دراساته جريا على عادة طلاب الفلسفة يومئذ، وهنالك سيتابع دروسه على يد “هوسرل” Husserl و “هايدجر”. إن حداثة عهد الناس بنشر كتاب “الوجود والزمان” Sein und Zeit  كان قد جعل من صاحبه المتابع والمرسخ لظاهرية “هوسرل” في تربة الفكر الغربي.

         كان وعي “هوسرل” عميقا؛ فقد برهن على أن الترابط بين الكائن الإنساني والعالم كان قد ُأعطي مسبقا في “الوجود-في”. إن الموجود الإنساني، وجها لوجه مع العدمية والموت، يدرك أن الأشياء تكون؛ ولكنها قد لا تقو أن تكون، وهكذا يجرد الكينونة من الأشياء. هذا التجريد يكشف بالفعل كينونة الأشياء، وليس الكائن ذاته، ولكن ذلك لا يقع إلا للموجود الإنساني الذي بفضله يستطيع أن يكون”بيت الكائن”  ahí del serأو  Dasein . من جهته، سيأخذ “زوبيري” بكيفية متحمسة بهذا التجذير للفينومينولوجية، ولكنه سيظل في نفس الوقت ناقدا لأفكار “هايدجر كما سيصرح له بذلك في وقت معين. إن سؤال “هايدجر” عن الكينونة، انطلاقا من العدم، يعكس من وجهة نظر “زوبيري” استمرار وجود أفكار فلسفية ذات أصل لاهوتي طبعت عموم العصر الحديث؛ فما بعد الكينونة، ليست هناك إلا الحقيقة المدركة من خلال الاتصال المباشر بالأشياء.

         ومن المحتمل أن هذه الاهتمامات قد تصادفت مع بعض دراساته في تلك الفترة؛ ففي عام 1930، سيقيم “زوبيري” في برلين حيث سيتعرف على “أنشتين” Einstein (1879-1955)           و”شروندينغير” Schrödinger(1887-1961) و”زيرميلو” Zermelo (1871-1953) و”جاغير”Jaeger(1881-1961) من بين شخصيات علمية أخرى. وقد انصب جانب مهم من جهوده  خلال تلك الأعوام على دراسة التقدم الحاصل في الفيزياء ونتائجه على الفلسفة؛ فقد قلبت فيزياء “أنشتين”        و”بلانك” Plank (1858-1947) الجديدة كل المشهد العلمي والمعرفي يومئذ. إن النظريات الخاصة والعامة للنسبية وضعت الصورة الكلاسيكية للزمن والمكان موضع تساؤل، حيث أصبحت الآن مرتبطة بالكتلة والحركة. ولكن فكرة المادة نفسها تغيرت نهائيا بظهور النظرية الجديدة للميكانيكا الكوانتية. لم يبق التطور الفلسفي لـ”زوبيري” بمعزل عن هذه التغيرات، بل سعى إلى استيعابها في فكره الفلسفي. وبالفعل، فقد اعتقد “زوبيري” أن تلك التغيرات الحاصلة في المجال العلمي؛ والتي تتواز مع مثيلات لها في مجال الفن وعموم الثقافة، تحتاج إلى جهاز فلسفي جديد كليا لا يمكن له أن يتحقق ما لم يقتدر على المضي باكتشافات “هوسرل” و”هايدجر” إلى مستوى فلسفي جديد. في عام 1931، سيلتحق “زوبيري” بكرسي التدريس في مدريد مجددا. كانت تلك السنوات أياما حرجة في السياسة الوطنية بعد الإعلان عن قيام الجمهورية في 14 أبريل من نفس العام. أثناء ذلك العام، كان الرجل بصدد الاشتغال على بعض الأعمال الحاسمة في فهم مساره الفلسفي لاحقا؛ فمن حيث كونه أستاذا لتاريخ الفلسفة، استطاع “زوبيري” مراجعة تاريخ الفكر الغربي لكي يستشكل داخله بعضا من فرضياته العصية. أكبر مفاهيم الفلسفة الغربية، مثل المادة والكينونة أو اللوغوس، صارت موضع سؤال. وابتداء من العام 1935، رحل “زوبيري” إلى روما لكي يستعيد وضعه المدني.

         وفي عام 1936، سيتزوج في روما بابنة “أميريكو كاسترو” Américo Castro (1885-1972) السيدة ” كارمن كاسترو مدينفيتيا” Carmen Castro Madinaveitia (1912-1997) وسينتهز فرصة إقامته هناك لكي ينكب على دراسة اللغات الشرقية، وبخاصة مع الأب “ديميل” Deimel في المعهد الإنجيلي الرسولي. وعند اندلاع الحرب الأهلية، أصبح مكوث الزوجين في إيطاليا الفاشية أمرا صعبا شيئا فشيئا، فكان انتقالهما إلى باريس حيث اشتغل “زوبيري” بإعطاء دروس في “المعهد الكاثوليكي”  Institut Catholiqueودراسة اللسانيات مع “بينفينيست”  Benveniste(1902-1976) إلى نهاية الحرب الأهلية الإسبانية، وبداية الحرب العالمية الثانية مع اجتياح القوات النازية لفرنسا. عودة الرجل مع زوجته إلى إسبانيا لم يكن سهلا. فعلى الرغم من أن “زوبيري” حصل على كرسي الأستاذية في جامعة مدريد، إلا أن أسقفها عمل على إبعاده عن العاصمة بكل ما أوتي من قوة. وقد رضي “زوبيري” إمكانية قبوله كرسي الفلسفة في جامعة برسلونة فيما لو عرضت عليه. وسرعان ما تبينت له استحالة ممارسة فكره بحرية داخل الفضاء الجامعي في تلك الفترة. وفي عام 1942، سيطلب استعفاءه إداريا من الجامعة مما يعني ابتعاده عمليا ونهائيا عن أروقتها. ولما عاد إلى مدريد، اشتغل بإعطاء دروس خاصة. وبعد ذلك بقليل، تم نشر طبعته الأولى من كتابه “الطبيعة والتاريخ والله” إحدى أهم الأعمال المؤثرة في الفكر الفلسفي الإسباني خلال القرن العشرين. وفي عام 1946، سيرحل لفترة قصيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث سيقدم جملة من المحاضرات في جامعة “برنستون”  Princeton حول “الواقعي في الرياضيات”. وفي عام 1947، وبرعاية من بنك “اوركيخو” Banco Urquijo  تم تأسيس “جمعية الدراسات والمنشورات” في مدريد برئاسة “زوبيري”، حيث سيجعلها هذا المفكر منتدى ثقافي جديد ساعده على عرض ومناقشة فكره مع مجموعة من تلامذته الذين بدؤوا في التكاثر رويدا رويدا أمثال “بيدرو لاين إنترالكو” Pedro Laín Entralgo (1908-2001) و “خوسي لوبز أرانجورين” José López Aranguren (1909-1996). ولقد كان نشر “تكريم خافيير زوبيري” عام 1953 بمثابة الإشارة إلى بدء الاعتراف العمومي بالرجل. ومع ذلك، فقد ظل فكره الفلسفي محصورا في ثلة من المهتمين، ولم يشهد انتشاره خارجها. ومرت أعوام، ولمُيقدم “زوبيري” على نشر أي كتاب. غير أن دروسه الشفوية عكست،  ومنذ العام 1944، النضج المستمر لفلسفة خاصة تضرب جذورها فيما يسميه “زوبيري” نفسه بـ”انطباع الواقع”. هذا الانطباع للواقع، التي تعبر عن التجذير الزوبيرياني لـ”فهم الواقع” لـ”هايدجر”، ستساعده على تقديم بدائله لأكبر المفاهيم الفلسفية الكلاسيكية. لقد اعتقد “زوبيري” أن  الفلسفة الكلاسيكية “جوهرت” الواقع و “كيننته” (من الكينونة) وفي نفس الوقت “منطقت” الفهم والإدراك. هنا سيقترح “زوبيري” بمقابل اللوغوس، القديم والمعاصر، “العقل الحاس”، و أمام المادة القديمة والذات المعاصرة، سيقدم فكرة جديدة عن الواقع كبنية مادية تترتب عنها رؤية غير ذاتية no subjetual للشخصية الإنسانية. جميع حلقات هذا الاقتراح، ستدرك تمام صورتها في كتابه الصعب “عن الجوهر”الصادر عام 1962. وأكثر ما كان في متناول الجمهور، وما قدر له من عظيم الشعبية بين أوساط طلاب الفلسفة، كتابه “خمس دروس في الفلسفة”؛ الذي حرص فيه صاحبه على تقديم فكره الفلسفي الخاص به. وفي عام 1970، سيظهر مجلدان اثنان يضمان ثاني تكريم له بعنوان “تكريم خافيير زوبيري” تلاقى فيه معظم مثقفي الفترة من الإسبان. وداخل “جمعية الدراسات والمنشورات” سينشأ عام 1971 “معهد الأبحاث خافيير زوبيري”. في هذا المعهد، ستتهيأ للرجل الفرصة لكي يناقش أفكاره مع تلامذته الأقربين الذين شهدوا تحديد وتطور أفكاره بعد ذلك. وفي هذه الفترة، سيشرع في دراسة منظمة للإدراك الإنساني استعدادا لإنهاء عمله الأساسي. ولكن قضايا أخرى كانت موضع انشغاله أيضا مثل الأنثروبولوجيا الفلسفية، ومشكلات المكان، والزمان، والمادة، والبنية الحركية للواقع. كما انصب اهتمامه أيضا على قضايا الدين واللاهوت؛ حيث شكلت تلك القضايا موضوع درس في الجامعة الغريغوريانية بروما عام 1973. وفي العام الموالي، شرع “معهد الأبحاث خافيير زوبيري” في إصدار Realitas  Realidad) )  شملت ثلاث مجلدات ضخمة ضمت بين دفتيها أعمال “زوبيري” ومريديه، حيث عرفت طريقها إلى الناس على أوسع نطاق. وفي عام 1979، ستمنحه الجمهورية الفدرالية الألمانية “الوسام الأكبر للاستحقاق” Das Grosse Verdienst Kreuz   وفي العام 1980، سيحصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة “الدوستو” Deusto  في بلباو. وفي عام 1982، سيحصل، رفقة “سيفيرو اوشوا” Severo Ochoa (1905-1993) على جائزة “رامون إي كاخال” Premio Ramón y Cajal للبحث. وفي عام 1980، ستشهد الأوساط الفكرية صدور الجزء الأول من كتابه الأساسي “ العقل الحاس” أو “الشاعر”.

         وعند صدور الجزء الأول “الإدراك والواقع”، سيتبعه في الصدور “الإدراك واللوغوس” عام 1982، و”الإدراك والعقل” عام 1983. في هذه الثلاثية، لم يقم “زوبيري” بتوضيح أكثر المسائل ارتيابية حول الجوهر، ولكنه هيأ فهما منظما لفكره من منطلق فلسفته الأكثر نضجا. وانطلاقا من “العقل الحاس”، غدت جميع الأسئلة المتعلقة حول “الواقعية الساذجة” لـ”زوبيري” محسومة نهائيا. الواقع هو صورة الأشياء أثناء إدراكها وتمثلها، وليست منطقة للأشياء مجاوزة لها. انطلاقا من وجهة النظر هذه، استطاع “زوبيري” أن يؤكد، ضدا على كل الفلسفة المعاصرة، أن الألوان واقعية لأنها تدرك في مجالنا الاستيعابي البصري، كما لو كانت أشياء مستقلة بمنأى عن هذا الإدراك. ولكن هذا لا يحسم مسألة ما إذا كانت الألوان أبعد عن الإدراك؛ فهذا وحده بالضبط ما على العقل أن يبحثه. ذلك أن صورية الواقع تكون نقطة الانطلاقة للتساؤل عن الواقع العميق للأشياء. لا يتعلق الأمر بقفزة ولا بقنطرة بين النقطتين، بل بتعميق للواقع. ولهذا سيستطيع “زوبيري” أن يؤكد أن العلم ليس تراكما محضا للمفاهيم المؤسسة للتحكم في الأشياء. إن العلم أكثر من ذلك، هو مجهود عظيم لتعميق الواقع المُحينﱠ أصلا في الإدراك. وعلى الرغم من ذلك، فإن عمل “زوبيري” حول الإدراك لا يدعي كونه فلسفة للعلم، بل هو تحليل للإدراك الإنساني في جميع أشكاله، من الإدراك العلمي حتى الإدراك الفني، ومن الأحكم بناء إلى الأكثر يومية وبساطة. وفي العام 1983، سيبدأ “زوبيري” وبقواه الخائرة نتيجة المرض، بإعداد كتاب “الإنسان والله” الذي لم يستطع إكماله. وفي يوم 21 شتنبر من نفس العام، سيموت الرجل في مدريد في كامل شموخه الروحي والفكري. وبعد وفاته، سيعمل تلامذته المجتمعون في معهد الأبحاث أولا، وفي المؤسسة التي ستحمل اسمه، على نشر أعماله. أول تلك الأعمال كتابه “الإنسان والله” (1984) المنشور بعناية “إلاكوريا” Ellacuría  (1930-1989) احد أقرب مساعديه.

         وتبعت هذا العمل، أعمال أخرى بدأت شيئا فشيئا تهيئ للناس أسباب الاطلاع على أعمال هذا المفكر التي كانت لعهد قريب محصورة في دائرة ضيقة من أقرب تلامذته. وهكذا تم نشر “عن الإنسان” (1986) و “البنية الحركية للواقع” (1989) و “عن الشعور ودفقة الإرادة” (1992)       و”المشكلة الفلسفية لتاريخ الأديان” (1993) و”المشاكل الأساسية للميتافيزيقا الغربية” (1994) و”المكان والزمان والمادة” (1996) و”المشكلة اللاهوتية للإنسان: المسيحية” (1997) و”الإنسان والحقيقة” (1999).

         وفي عام 2000، تم نشر “الكتابات الأولى (1921-1926)، وتلاه في العام2001 كتاب آخر “عن الواقع”، ثم في عام 2002 كتاب آخر “عن مشكلة الفلسفة وأعمال أخرى 1932-1944”.

         واليوم، وعلى الرغم من أن كثيرا من أعمال “زوبيري” ما تزال غير منشورة، فإنه من الممكن التعرف على فكر “زوبيري” الفلسفي والاستفادة من جميع إمكانياته من اجل حياة فكرية “في مستوى العصر” كما قال هو ذاته.

(*)  هذه المقالة مترجمة بتصرف من حيث هوامشها وتوثيق الأعلام الواردين فيها عن الموقع الرسمي لـ”خافيير زوبيري” http://www.zubiri.net/  وتشكل مدخلا لدراسة بعنوان “فكر خافيير زوبيري الفلسفي والديني”أنجزها المترجم. وقد حذفنا هوامشها حتى تصدر كاملة في متنها قريبا.

 

 

 

نحب أن نعرف رأيك...